في دارنا ثعلب
تحت عريشة العنب .. فوق المصطبة الحجرية المشرفة على باحة الدار الكبيرة، كان جدّي يجلس كل مساء..
تعدّ جدّتي القهوة، وتهيئ المساند والوسائد، ثم تأمرنا بحزم قائلةً:
- العبوا هناك، قرب السّور. العبوا بهدوء! كنّا نقفز كالعفاريت، نعرض مهاراتنا في الجريِ والوثبِ والتسلّق من شجرة التوّت إلى بوابة الدار العريضة. إلى خمّ الدّجاج.. بعضنا يحمل على كتفه خشبة أو يمتطي قصبة طويلة كالحصان ، يمشي بخطوات العساكر:
- واحد.. اثنان، واحد.. اثنان..
أو يرتفع صهيل متقطّع:
- هي هي.. هي هي.. هي هي..
أمّي تبتسم، وجدّتي تبتسم، وربّما جدّي أيضاً يبتسم. كان يُسْعِدُه أن يرانا حوله، يحتضن أحفاده الصّغار، يزحف إليه محسن، وتركض نحوه فاطمة، ويتمسّح به هاني، وهو بهيبته ووقاره يربّت على أيديهم أو يداعب رؤوسهم..
عناقيد العريشة تتدلّى فوقنا كالمصابيح، حبّات العنب كبيرة لامعة، تشفّ عمّا فيها من عصير سائغ رقراق، تقول لنا أمّي:
- تعالوا، ذوقوا، ياأولاد، إنّه من فاكهة الجنّة!-
نلتقط الحبّات النّاضجة. نتلذّذ بالعنب الشهيّ، نرى في لونه الأحمر ما يثر النفس، ويحرّك الّلعاب، لقد أَحْبَبْنا هذه العريشة، أحبننا ظلالها الوارفة، وثمارها الّلذيذة. أحببنا أماسي الصيف في الدار الكبيرة.. جدّتي بثوبها الأزرق المنقّط بزهور بيض صغيرة، تروح وتجيء، تسقي شجيرات الورد، وشتلات الزنبق،...يتضوّع الياسمين، يعبق أَريجُه المُسْكِرُ، تعبق رائحة الفلّ والسوسن، والأقحوان، أسطح البيت تتألق بالضياء، حُمْرةُ الغروب في الأعالي، والحمام السابح في الفضاء يمدّ أجنحته البيضاء. يطير في دورانه المَرِح سعيداً، قبل أن يعود إلى أبراجه فوق السّطوح يهدل أمامنا، يقدّم تحية المساء ثم يغفو آمناً..
وجاء مساء، لم يكن كما ألفناه..
ارتفع صياح مزعج في باحة الدار، وعلا ضجيج وصخب.. أعلنت جدّتي وهي تضع كفّها على خدّها:
- يه.. يه.. يه.. الدّجاجة القرمزية اختفت!
ركضت أمي وهي تصيح:
- والأرنب.. الأرنب الصغير الأبيض لا أثر له!
قال أبي بهدوء:
- اسألوا جارتنا أم محمود!..
ومن وراء السّور، ظهر رأس أم محمود، بدت على وجهها آثار التّعب ، كانت دامعة العينين، وفي صوتها رَجْفة.. قالت:
- الدجاجة القرمزية، و.. الأرنب أيضاً.. لقد فقدت منذ يومين البطة الرمادية السمينة!!
قال أبي:
- معقول.. ماذا أسمع؟
صاح أبو حمدان، وهو يطلّ من البوّابة:
- أنت آخرُ مَنْ يعلمُ!..
ردّ عليه أبي:
- ما هذا الكلام، ياجارنا..؟!
أكمل أبو حمدان ساخراً:
- الثعلب يشنّ غاراته، وأنت لاتدري!..
نظر أبي إليه بقلق، وأبو حمدان يتابع حديثه:
- الحِمْلان عندي.تنقص اثنان رضيعان سُحبا..وها قد جاء دورك.. دجاجة ، ثمّ .. أرنب.. انتظر. هاه.. هاه.. وغداً منْ يدري، ربّما يصل إلى الصّغار!
أسرع أبي والغضب سيطر عليه.. حمل فاسه، ثم ركض باتجاه الدّغل القريب، ركضت وراءه أمّي وهي تحمل فأساً صغيرة أيضاً، ركض أخوتي.. لحق بهم أبو حمدان، ثمّ زوجته ، ثمّ أمّ محمود وزوجها.. وأبو خالد.. حتى جدّتي وصلت إلى أوّل الدّغل وهي تلهث.. وقفوا هناك، تشاوروا.. ارتفعت اصواتهم، مِنْ هُنا.. بل منْ هُنا.. كَثرُ صياحُهم، وقفت النساء إلى جانب أزواجهنّ، كلّ امرأة بجانب زوجها، تؤيدّه، ملأ الفضاء ضجيج وكلام كثير غير مفهوم.. تطاير السّبابُ.. تطايرت الشتائم.. من هنا.. ومن هناك.. اشتعل نقاش بين أبي وجارنا.. أبو حمدان يقول:
- قلت لك: الثلعب يمرّ من هذا المكان!
ردّ أبي:
- أنت مخطئ، منْ هنا يمرّ..
يجيب أبو حمدان:
- انظر.. هذه آثار أقدامه..
يسخر أبي:
- غلطان، هذه ليست آثار اقدام ثعلب!
- أنت أصغر منّي ولا تعرف شيئاً!
- بل أنت لا تعرف، وتريد أن..!!
وجذب أبي ثوب جارنا، وجذب أبو حمدان ثوب أبي، تشابكت الأيدي، وارتفع صياح النساء. وامتدت الفؤوس، لكنّ جدّتي صاحت بحزم:
- عيب.. ما هذا؟!
نظرت إلى أبي ، ثمّ إلى جارنا أبي حمدان، وقفتْ بينهما:
- تتعاركان بدون سبب!.. هل هذه طريقة تقضون فيها على الثعلب!.. واخجلتاه!!
انسحب أبي من المعركة، انسحب حمدان أيضاً، ساد الهدوء، وقد وقفا بعيدين، كديكين لم يكملا القتال.. كانا خَجِلَيْن.. وجدّتي بينهما حزينة..
..... وعند المصطبة. أمام جدّي الذي لم يغادر مجلسه، تعانقا، كان ابو حمدان هو الذي أسرع إلى أبي يضمّه إلى صدره.. قال جدّي بهدوء:
- يؤسفني ما حصل، كَثْرةُ الأقوال تبطل الأفعال، الثعلب ماكر، وأنتم تتشاجرون، ولم تفعلوا شيئاً حاسماً!..
وأمام الجميع. وضع جدّي بين يديّ أبي فخّاً..
نظر إلى عينيه مباشرة، وتمتم بِحَزْم:
- انصبه جانب السّور، قريباً من خمّ الدّجاج، ولا تنسَ السلسلة، فالثعلب ذكيّ، يعرف الطريق إلينا جيّداً!..
مرّت تلك الليلةُ، ولا حديثَ لنا إلاّ غارات الثّعلب النّاجحة، تذكّرنا بطّةَ أمّ محمود السمينة؛.. كيف سحبها الثلعب؟.. كم كانت وديعة طيّبة، تسوق صغارها. ثم تتهاوى فوق مياه البركة كالسّفينة!.. تذكّرنا الأرنب، أوكرة القطن المنفوشة، وهو يتدحرج في الباحة هنا وهناك ودجاجتنا القرمزية التي تطير فوق السّور.. أما كان بإمكان الديك المتعجرف أن ينقذها من مخالب الثعلب المهاجم؟! تذكّرنا الحِمْلان الصّغيرة التي ظَفر بها.. هل كانت تثغو وهي بين يديه، أم أنّ منظر الثعلب أخرسها؟ ليس هناك أمانٌ..
دجاجاتنا السّارحة تلتقط الحبَّ وهي خائفة، صارت كثيرة التلفّت والمراقبة.. الطيور والعصافير لاتبتعد عن أعشاشها، حتى الحَمامُ أوى إلى ابراجه دون أن يرفعَ هديلَه إلينا، أو يرقص في دورة المساء، حتى الأرانب اختفت وهي ترتجف.. فالثعلب يشنّ غاراته الليلية، ولا يترك خلفه إلاّ الريش.. حتى ألعابُنا توقّفتْ، وجدّتي نبّهتْ:
- ابتعدوا عن السّور. تلك أوامرُ الجدّ!!..
كنّا نلمحُ سلسلةً طويلة تمتدّ من شجرة التّوت، ثم تغوصُ قريباً من السّور.. لكن أحداً لم يقتربْ منها،. صار مجلسُنا، جميعاً، فوق المصطبة، في حَضْرة الجدّ، الذي يسعده وأن يرانا حوله.. أنا.. ومحسن، وهاني، وفاطمة.. وإخوتي بينَ يدَيْه.. وقد اتّكأ على وسادة فوقها صور فراشات وأزهار، والقمر لم يصعد، بعد، إلى قبّة السماء، والهدوء الشّامل يلفّ الدّار..
وعلى غير انتظار ، مزّقَ الصّمتَ صَرْخَةُ حيوانٍ حادّةٌ، تشبه نباح كلب ، كانت صرخة واحدة ، انطلقت منْ جانب السّور الحجريّ، أو تحت شجرة التّوت، رأينا جدّي ينهض بهمّة الشباب، وفي عينيه بريقُ النّصر، على الرغم من أنّ الصّرخة، هذه المرّة، امتدّت طويلة، لكنّها لم تكن نباحاً، بل عواءً متميّزاً بعث فينا القلق والخوفَ..
-عوو.. وو.. و.. عوو.. و.. و..
أعقبتها مباشرة قوقأة الدّجاجات، خائفة مرتعدة وركضنا وراء جدّي، الذي اندفع إلى مصدر العواء، وعصاه الغليظة في يده..
كان هناك ثعلب .. كبير.. لم أرَ مثلَه في حياتي.. وقد أمسك الفخّ بأحد مخالبه.. بدا مقوّس الظّهر يحاول استخدامَ أرجله الثلاث الطليقةِ في تحرير الرّجل المقيّدة...
وأمام جدّي راح يقفز بجنون من جانب إلى آخر.. والفخّ مربوط بسلسلة طويلة، أحاطت بجذع شجرة التّوت..
ارتجفت الأوراق والأغصان.. ارتجفت الدجاجات في الخمّ.. ارتجفنا- نحن الأولاد- أمام قفزات الثعلب المجنونة.. كان يعضُّ الفخَّ بقسوة، وعيناه تلمعان بالغضب.. لكنّ جدّي وحده الذي لم يكن خائفاً..دفعَ عصاه الغليظة نحو رأس الثعلبِ مباشرةً، فتوقّفَ عن قفزه.. كان مستسلماً مخذولاً.. ولولا تلك السلسلة لكان قد فرَّ بالفخّ بعيداً..
جاء أبو حمدان.. جاء أبو خالد.. وجاءت أم محمود، والجيران جميعاً.. كانوا سعداء وهم يرون الثعلب الأسير الذي وقع في فخّ جدّي .. هادئاً
مهزوماً..
في عيونهم التمعتْ نظراتُ المودّةِ والحبِّ والعرفان، أحاطوا بجدّي، غمروه بمحبّتهم.. وجّهزّتْ أمي الشاي المعطّر بالنعناع، دارتِ الأكوابُ، وارتفع هديل الحمام ناعماً شجيّاً..
قالتْ جدّتي:
- أرأيتم، يأولادي، الذي يعمل لايتكلّم..
نحن نكسّبُ ما نريدُ بهدوئنا وعزيمتنا.. لابالكلامِ والشّجار والثرثرة..
وكان جدّي ينقّل أنظاره بيننا، واحداً واحداً، ويبتسم..
واليوم، إذا زرتم دارنا الكبيرة، ودخلتم مضافة جدّي الفسيحة.. الرحبة.. رائحة القهوة تستقبلكم. سوف تتعلّق أعينكم بالجدار الكلسيّ هناك، ستلمحون فوق الجدار سيفاً بغمده- هو سيف جدّي- وإلى جانبه فراء ثعلب كبير، تلك علامة فارقة تشتهر بها مضافة جدّي!